هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يثرب لتبدأ مرحلة حاسمة في تاريخ الإسلام ودعوته.. وتبدأ مرحلة جديدة من الصراع مع الوثنيين من قريش وغيرهم من الأعراب الذين حاربوا الدين الجديد وحاربوا بنيه وأذاقوا المسلمين في مكة ويلات التعذيب والتجويع والقهر والإذلال.
كانت يثرب تضم قبيلتين الأوس والخزرج وقد استوطن فيها بعض القبائل العربية التي تهوّد معظم أفرادها إلى جانب بعض الوثنيين العرب الذين قدموا إليها من الخارج واستقروا فيه.
من الطبيعي أن مهمة بناء الدولة الإسلامية التي أنيطت بالرسول صلى الله علية وسلم مهمة أساسية وجوهرية. فهي تبدأ ببناء الإنسان أولاً وبناء العلاقة بينه وبين خالقه. ولهذا كان أول عمل قام به النبي صلى الله عليه وسلم بناء المسجد ليكون مكاناً للعبادة واللإجتماع بالمسلمين والتشاور في كافة القضايا الدينية والاجتماعية والسياسية. فإقامة المسجد أهم ركيزة في بناء المجتمع الإسلامي ذلك أن المجتمع الإسلامي إنما يكسب صفة الرسوخ والتماسك بالتزام نظام الإسلام وعقيدته وآدابه. وإنما ينبع ذلك كله من روح المسجد ووحيه.
والمسجد بطبيعته ملتقى أمة الإيمان خمس مرات للصلاة، والاستماع لإرشادات رسول الله صلى الله عليه وسلم كفيلة في خلق إنسان جديد ينسى فيه العصبية والجاه والمال ويتساوى فيه الغني والفقير.
ثم إن الرسول عليه الصلاة والسلام رسخ المبدأ الثاني في يثرب وهو الأخوة بين المسلمين الحق والمساواة وأن يتوارثوا بينهم بعد المهمات بحيث يكون أثر الأخوة الإسلامية في ذلك أقوى من أثر قرابة الرحم.
لقد اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من حقيقة التآخي الذي أقامه بين المهاجرين والأنصار أساساً لمبادئ العدالة الاجتماعية التي قام على تطبيقها أعظم وأروع نظام اجتماعي في العالم.
وكان الأساس الثالث الذي بناه النبي صلى الله عليه وسلم كتابة وثيقة بين المسلمين وغيرهم من اليهود وغيرهم. وهذا الأساس هو أهم ما قام به النبي صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بالقيمة الدستورية للدولة الجديدة وجاء في بنود الوثيقة:
"بسم الله الرحمن الرحيم: هذا كتاب من محمد النبي الأمي بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم فلحق بهم، وجاهد معهم، أنهم أمة واحدة من دون الناس: المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم، وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط، وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، ثم ذكر كل بطن من بطون الأنصار وأهل كل دار:
بني ساعدة، وبني جشم، وبني النجار وبني عمرو بن عوف، وبني النبيت. إلى أن قال: وإن المؤمنين لا يتركون مفرحاً بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء وعقل، ولا يخالف مؤمن مولى مؤمن دونه، وأن المؤمنين المتقين على من بغى منهم، أو ابتغى دسيعة ظلم أو إثم أو عدوان، أو فساد بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعهم، ولو كان ولد أحدهم،ولا يقتل مؤمن مؤمناً في كافر، ولا ينصر كافراً على مؤمن، وأن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم، وأن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس.
وأنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غر مظلومين، ولا متناصر عليهم، وأن سلم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم، وأن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضاً، وأن المؤمنين يبيء بعضهم بعضاً بما نال دماءهم في سبيل الله، وأن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه.
وأنه لا يجير مشرك مالاً لقريش ولا نفساً، ولا يحول دونه على مؤمن، وأنه من اعتبط مؤمناً قتلاً عن بينة فإنه قود به إلا أن يرضى ولي المقتول، وأن المؤمنين عليه كافة، ولا يحل لهم إلا قيام عليه.
وأنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة، وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثاً ولا يؤويه، وأنه من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل، وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله عز وجل، وإلى محمد صلى الله عليه وسلم.
وأن اليهود يتفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين. وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين. لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم ومواليهم وأنفسهم إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته. وأن ليهود بني النجار وبني الحارث، وبني ساعدة وبني جشم، وبني الأوس، وبني ثعلبة، وجفنة، وبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف، وأن بطانة يهود كأنفسهم. وأنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد، ولا ينحجر على ثأر جرح وأنه من فتك فبنفسه إلا من ظلم، وأن الله على أثر هذا.
وأن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، وأنه لم يأثم أمرؤ بحليفه، وأن النصر للمظلوم، وأن يثرب حرام جرفها لأهل هذه الصحيفة، وأن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم. وأنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها.
وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله، وأن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره، وأنه لا تجار قريش ولا من نصرها. وأن بينهم النصر على من دهم يثرب، وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه، وأنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين إلا من حارب في الدين، على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي